أعمدة صحفية

‎ما بين الأطباء والمرضى

‎اسرد قصة وقعت لي في العام 2009 في مستشفى الانف والاذن والحنجرة في الخرطوم، كنت اعاني من مشكلة في اذني، واخبرت بذلك طبيبة صديقة تعمل في نفس التخصص، ولكنها ليست في تلك المستشفى، وطلبت مني ان اتيها في المستشفى الذي تعمل به، او ان تذهب معي الى مستشفى الانف والاذن والحنجرة من اجل الفحص بواسطة جهاز مختص في ذلك، ولكن في أحيان كثيرة يصاب الانسان بمرض الأخلاق ، وهو عادة يأتي سؤال بهذه الشاكلة: لماذا اذهب للمستشفى عن طريق وساطة بينما ينتظر الناس في الصفوف لوقت أطول، لماذا لا احترم صبر الجميع الذين يعانون مثلي، واذهب وحدي وانتظم الصف والصبر والانتظار. فرفضت عرض الصديقة الطبيبة الطيبة وذهبت للمستشفى في الصباح الباكر. كان الصف طويلا جدا، والمرضى يزحفون في بطء شديد في قاعة شاسعة، لم أجد مكانا للجلوس فظللت واقفا لما يقدر بساعة من الوقت، ثم جلست وبدأت، مرحلة الزحف جالساَ، وعند الساعة الرابعة بعد الظهر كنت قد حصلت مكتب الطبيب الذي هو عبارة عن ستارة تفصله عن زحف الزاحفين من المرضى، وفي اللحظة التي دخلت فيها وجلست امامه، نهض الطبيب الشاب حمل سماعته وبعض الأدوات وخرج، فجلست منتظرا عودته، ولكنه لم يعد، مرت ممرضة بالمكتب فسألتها عن الطبيب قالت لا يوجد طبيب، لقد ذهب الطبيب للاستراحة، ماذا افعل؟ قالت لا تدري. بالطبع لست طيبا بما يكفي ولأنني انسان طبيعي، ومن حقي ان اغضب، فصرخت باعلي صوتي انني اريد طبيا هنا والآن أقصد احتججتُ بعنف، فجاء بعض الأطباء من حيث لا أدرى والممرضات وانتهروني أيضا بعنف، وطلبوا مني ان احضر غدا. ولكنني رفضت الخروج من مكتب الطيب ما لم أنل الرعاية المطلوبة، الى ان جاء أحد الأطباء العقلاء او الممرضين لا اعرف بالضبط من هو، جلس قبالتي سألني بصورة جافة جدا مم اعاني، اخذ جهازا اشبه بالبطارية تفحص اذني ثم طلب مني ان اذهب للطابق الأعلى لكي يتم فحص اذني بجهاز لا اعرف اسمه، وعندما صعدتُ للطابق الأعلى وجدت فنيا اعطيته رسالة الطيب قال لي: الجهاز عطلان منذ شهر. كانت تلك آخر مرة أذهب فيها للمستشفى.
‎واقعيُ جدا القرار الذي يعمل علي حماية الأطباء من العنف والاعتداء الذي يمارس ضدهم من بعض المواطنين الذين يفسرون موت ذويهم نتيجة اهمال مباشر من الأطباء، ليس قضاء وقدرا كما يفسره المؤمنون وليس نتيجة لتردى الخدمات الصحية والإهمال المؤسسي الذي لازمها منذ الاستقلال وليس لأن حالة المريض كانت متأخرة لأن البعض لا يأخذون ذويهم للمستشفيات الا بعد مكوثهم شهور بين يدى الفكيا والدجالين والشيوخ المدعين بانهم يمتلكون علاج كل الأمراض المعروفة وغير المعروفة بل والتي سوف تستجد في قابل الأيام والدهور، وحينما يقف مريضهم على عتبة القبر ويسمعون صوت طرقات انامل نكير على ابوابهم، يحملونه الى اقرب مستشفى ليموت هنالك ويحمِّلون مسئولية موته لأول طبيب يلتقون به.
‎هذا وجه، ولكن الوجه الآخر، علينا ان نلقي عليه بعض الضوء، وهو الطبيب، وما سأكتبه هنا لا ينطبق على كل الأطباء ولكن على عدد كبير منهم، وهو انهم غير مدربين جيدا للتعامل مع المرضى، ولقد شاهدت بأم عيني أطباء كبار وصغار بل طلاب طب ينتهرون المرضى، ويتعاملون معهم ومع ذويهم بقسوة غير أخلاقية، وتبدأ عادة معاناة المريض واسرته عند بوابة المستشفى، ذلك الخفير او البواب المتعالي، الذي يستوحي قوته وعنجهيته وعجرفته وتسلطه من إدارة المستشفى، لأنه يرى بأم عينيه بعض الأطباء الذين هم مثله الأعلى يتعاملون مع المرضى وذويهم بقسوة غير مبررة: بالتأكيد انه اذا ترك الحبل على القارب سوف تمتلئ المستشفى بالمواطنين بل سكان قرية او الحي كاملا، مما يعيق الفريق الطبي من أداء مهمته، بعض المرضى عندما يصلون الى المستشفى يكون في صحبتهم نصف سكان القرية وخاصة اذا كان المريض أحد الشيوخ او الوجهاء، فتتبعه الخلوة كلها. ولكن لا تُحل هذه المسألة بالعنف، بل بوسائل سلمية وإنسانية كثيرة.
‎إذن هنالك ثلاثة اوجه للمشكلة: المواطن المريض وذويه، والطبيب والمؤسسة.
‎لذا كنت أتصور ان يشمل الحل والقوانين الرادعة الجوانب الثلاثة، وان يتفحص الأخطاء الطبية والأخطاء المؤسسية ايضاُ، نعم ان القانون الجنائي يقوم بالفصل في كل تلك الأخطاء ولكنه أيضا يقوم بالفصل في الجنايات والجنح التي يرتكبها المريض وذويه ضد الأطباء، ولكن طالما كانت الحاجة ملحة لاستحداث قانون خاص لحماية الأطباء كان من الوجاهة ان يستحدث قانونا خاصا لحماية المريض من صلف واعتداء بعض الأطباء واهمالهم واخطائهم المهنية وتقصير المؤسسات الطبية، وأن يؤكد على التدريب الجيد للأطباء فيما يخص اخلاقيات أداء الوظيفة والأعداد الجيد للمؤسسة الطبية لكي تساعد الطبيب نفسه في أداء مهمته: وان تكون تلك القوانين رادعة جدا. فمعالجة المشكلة من جانب واحد لا تقود الى الحل الناجع، بل قد تعرض الطبيب غير المدرب لأسوا أنواع العنف، فالعقوبة الرادعة لا تمنع المريض او ذويه من الاعتداء على طبيب لا يعرف كيف يتعامل من المرضى وذويهم.
‎عبد العزيز بركة ساكن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سلوك الاطباء العنيف عريق ومن موروثات الدولة الاستعمارية التي اورثتها دولة الاستقلال ووريثاتها الشمولية، التي تعطي منسوبيها قهربتها وصلفها الممتد حتى يشمل الغفير، وكل هذه المنظومة تضمر استعلاء فسلا، على المواطن البسيط وكانها تتكرم عليه بالاقتراب من حرمها، لطلب خدماتها.
    لذا أري وجوب حماية المواطن قانونيا، من هذا القهر اللامبرر والعميق الجذور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *